الاثنين، 21 يونيو 2010

مذكرات: رحلة (الجيت سكي)

بدأت الرحلة قريباً من أحد شواطئ مدينة "ميامي" ليستقل كلُ منا "الجيت سكي" الخاص به، وينطلق في بحار المحيط الأطلسي معلناً بداية الرحلة... كانت الرحلة تهدف إلى التعرف على "ميامي" من خلال البحر.. انطلق قائدنا، وانطلقنا من خلفه بأقصى سرعة.. متجهين إلى هدفنا.. كان الحماس على أشده.. والسرور يغمرنا.. كحال كثير من الأشياء التي نرغب بها بشدة.. لتلك الدرجة التي نصم بها الأذان عن كل رأي.. ونصوغ الفكر ليدعم الفكرة.. ونُقدم إليها بعجالة.. لنتفاجأ بعد حين.. إنه لم يكن كما توقعناه.. وإن ما رغبنا به يوماً بشدة.. ربما نريد فراقه برغبة أكبر.. ما أعجب الإنسان في انتقاله من حالٍ إلى حال.. سُبحانك يا من خلقته.

أقتربنا من جزيرة أُطلق عليها مسمى "جزيرة النجوم" نظراً لأن عدداً من المشاهير يعيشون هنا.. كان مرشدنا السياحي يلتف حول الجزيرة ونحن من خلفه وهو يقول: هذا هو منزل "لاعب التنس" المشهور (....) ، وذاك منزل "مغني الراب" (....) ، وذلك منزل "الممثلة" (....) .... كانت أسماء هؤلاء المشاهير تتكرر.. ويُشركها أمرٌ واحد.. وهي إنهم جميعاً من أصحاب مِهن "إمتاع الجماهير"، خلال مرورنا حول هذه المنازل.. تجاوزنا منزلاً لم يذكر لنا من صاحبه.. فاستوقفته سائلاً: ومن يكون صاحب هذا المنزل؟ فقال: هو منزل "طبيب" أو "محامي".. ولكنه ليس مشهوراً.. ولا أعرف من يكون.. هُنا أرجعتني الذكريات لشهر مضى.. لتلك السيدة العجوز " بِيتي" التي تقطن في شقة بسيطة ومتواضعة.. والتي ابهرتني بكمية المعلومات التي تملكها.. والموؤسسات الخيرية التي تساهم بها.. شتان بين أثرهما.. وشتان بين نصيبهما في الدنيا.. لا أدري من الُملام هنا.. ولكن بالتأكيد.. الجماهير هي من تقرر من يصبح شهيراً.. ليحظى يهذا النصيب.. هو قرارها التي ربما هو سنة كونية يُراد بها خيرٌ مجهول... الله أعلم !

قبل أن تنتهي محطتنا هنا.. كنت أتامل تلك المنازل البديعة.. بجمالها.. وحسن تشيدها.. لأسمع مرشدنا من خلفنا يستطرد قائلاً: غالباً هذه المنازل هي مجرد مصيف.. وكل شخص منهم ربما يكون يملك منزلين أو ثلاثة في مناطق مختلفة.. لتظهر لي صورة ذلك الرجل الذي أراه دوماً يفترش الطريق.. منزله زاوية الرصيف، ومضجعه بقايا "كرتون" لأحد الشركات المشهورة.. ربما وجده كقمامة تخلص منها صاحبها عندما أمتلك مضمونها وترك وعائها ليصبح قطعة مهمة لشخص لآخر.. ومن يتوقع؟ بجانبه تلك الحقيبة التي تحمل جميع ممتلكاته.. دوماً نخوض الدنيا لينقضي اليوم.. ونعود إلى مكان معروف.. إلى ملأجئنا.. إلى منزلنا.. كيف هي حالة ذلك الشخص.. الذي ينتهي يومه.. ولا يجد مكاناً يعود إليه.. لا يجد المنزل.. يحمل تلك الحقيبة.. وعندما ترهقه الدنيا.. يلقيها إينما التقت.. ويخلد بجانبها إلى النوم.. ليصبح هذا منزله لهذا اليوم.. ومن يعلم أين سيكون منزله غداً؟ ليقطع شرود ذهني صوت المحرك.. وأجد نفسي أمام منزل مغني الراب الشهير.. الذي يُعد الساحة الخلفية لتحتضن سهرة راقصة لهذه الليلة...

تجاوزنا الجزيرة.. كنا نسعى لنسير بسرعة فائقة لنصل إلى الهدف الذي يليه.. لكن يبدو إن البحر كان له رأي أخر.. كانت أمواج المحيط تعيق حركتنا.. ترفعنا حيناً.. وتزيحنا حيناً أخر.. فنضطر أن نخفف من سرعتنا قليلاً.. ولكن البحر يأبى إلا أن يزيد مشقة الطريق مشقة.. ليلقي بمياهه علينا لتبتل أجسادنا.. وتمتلئ أعيننا بأملاحه.. فتشوش رؤيتنا.. فنقف قليلاً لنستطيع الرؤية وإكمال الطريق.. يتشابه ما حدث.. بما نعيشه يوماً وراء يوم خلال سعينا في هذه الدنيا.. عقبات تحاول إيقافنا كأمواج البحر.. وأراء مختلفة.. وأحداث متنوعة.. تختلط فيما بينها ليضيع الحق.. وتتشوش أذهاننا.. كما شوش الملح رؤيتنا.. البحر لم يكن ليهدأ من أجلنا.. كان من الواجب أن نخوضه بوعورته ونتعلم كيف نتعاطي معه.. لنصل إلى هدفنا.. وهي الحياة تحتاج إلى أن نفهم سننها.. ونتعلم مهارات العيش بها.. لنحقق ما نرجوه..

كان شعور الهواء جميلاً.. وهو يداعب ملامحنا.. شعور إنك تمضي.. وتقدم .. وتتجاوز.. وتقترب.. هو شعور رائع بحق.. شعور الإنجاز.. رغم وعورة الطريق.. ومصاعبه.. إلا إنه دوماً هناك ما يزيدك عزماً على الإكمال.. تلك اللذة تجعلك تصرخ منفعلاً: نعم ، إنها تستحق العناء..

ظهرت مجموعة من الدلافين.. وبدأت تقفز أمامنا.. توقفنا وقوفاً كاملاً لرؤيتها.. كان منظراً بديعاً.. لم تكن من مخطط الرحلة ! ظهرت فجأة.. ولأجلها توقفنا.. كالملهيات التي توقفنا أو تجعلنا ننحرف قليلاً عن طريقنا.. ربما أحياناً نحن في حاجة لها.. وربما أحياناً نتبعها.. وننسى الهدف الأساسي الذي سعينا من أجله.. ولكننا عزمنا على توديعها.. رغم جمالها.. لكي نكمل مسيرتنا..

مررنا بعددٍ من المعالم الأخرى.. لم تحرك الخواطر كثيراً.. لنقترب من هدفنا.. معلنين نهاية الرحلة.. قبل الوصول كنت أتامل منظر البحر.. كان يبدو وكأنه لا نهاية له.. كان الأفق بعيداً.. كان المنظر يداعب النفس.. يستحثها للانطلاق.. لعدم التوقف.. للاكتشاف.. كم هي وثيقة حياتنا بالبحر.. نسعى ونخوضها.. ونرى دوماً أفقها بعيداً.. لن تتوقف الحياة.. وتعلن إننا وصلنا إلى نهاية الرحلة.. في الحقيقة دوما سنتبع الشفق.. في ذاك الأفق.. تلك الرحلة إلى هناك .. هي الحياة.. وإن انتهت تلك الرحلة.. فهذا يعني انتهاء الحياة..

ميامي، أمريكا

25 / مايو / 2010

الأربعاء، 9 يونيو 2010

يشيخُ الجسد.. وتبقى الروح..

في صباحٍ باكر.. كنت واقفاً عند إحدى إشارات المرور.. لتشد انتباهي تلك المرأة التي يبدو أنها تجاوزت الستين من عمرها.. كانت بداخل عربتها، تضع سماعة الأذنين.. وتتمايل طرباً مع ألحانٍ تنسالُ إلى دواخلها.. ابتسمت لهذا المشهد.. وتذكرت أحوال عدد من كبار السن الذين أثقلتهم الهموم.. ومضت الحياة وتناستهم.. في حُجرة ظلماء.. يُقبل إليهم الناس في حينٍ بقبلة باردة على الرأس.. وأحاديث لا معنى لها.. يملؤا جزءاً من هذا الفراغ.. ويتركوا الحيز الأكبر لتلك الروح الممتلئة بالذكريات لتتصارع مع بقايا الزمن.

لا أعلم لماذا نفقد "روح الحياة" مع مرور الزمن؟ هل هي تلك الأحداث المريرة.. والذكريات العديدة.. لمشهدٍ مؤسف رأيناه، أو قصة مؤلمة سمعناها.. أم هي ذكرى هؤلاء الأحباب الذين ذهبوا.. وتركونا أغراب مع هذا الجيل الجديد؟ بأفكاره المختلفة ، ونمط حياته المتسارع؟ أم هي شهرة ذهبت؟ ومنصب فُقد؟ وحياة صاخبة أصابها السكون.. ربما هي مجرد لحظات الانتظار القاتلة للموعد المحتوم؟

أينما وجدت الأسباب.. فهو في نهاية الأمر "قرار" للإنسان حق اختياره.. قرار الحياة.. يتطلب تحقيقه جهداً وتهيئة نفسية عالية.. إلى غاية سامية لا تنتهي.. تملأ حياته صخباً وروحاً وحياةً.. سنبقى صغاراً في حضن هذه الدنيا.. لا نتكابر عليها فنكبر لنموت.. لنتعلم من دروسها.. ونتراقص مع أمواجها.. لنعش في مراحلها.. بُمتعها.. وأحداثها.. وظروفها.. ومتى حانت اللحظة.. فنحن قد قدمنا ما يمكن تقديمه.. وعُشنا ما يمكن عيشه.. واستمتعنا فيما يمكن استمتاعه.. فقط لنتخذ ذلك القرار.. J